فصل: بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بَابُ قَضَاءِ رَمَضَانَ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} قَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ دَلَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَفَرِّقًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَدْ أَوْجَبَ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامٍ مَنْكُورَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي جَوَازَ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا إنْ شَاءَ أَوْ مُتَتَابِعًا؛ وَمَنْ شَرَطَ فِيهِ التَّتَابُعَ فَقَدْ خَالَفَ ظَاهِرَ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إيجَابُ صِفَةٍ زَائِدَةٍ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ فِي اللَّفْظِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ الصَّوْمَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّتَابُعَ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ؟ وَالْآخَرُ: تَخْصِيصُهُ الْقَضَاءَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ، وَغَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلَالَةٍ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} فَكُلُّ مَا كَانَ أَيْسَرُ عَلَيْهِ فَقَدْ اقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَ فِعْلِهِ، وَفِي إيجَابِ التَّتَابُعِ نَفْيُ الْيُسْرِ وَإِثْبَاتُ الْعُسْرِ، وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِظَاهِرِ الْآيَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثِ: قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ قَضَاءُ عَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ فِيهَا؛ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.
فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُهُ مِنَّا إكْمَالَ عَدَدِ مَا أَفْطَرَ، فَغَيْرُ سَائِغٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِطَ فِيهِ غَيْرَ هَذَا الْمَعْنَى لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حُكْمِ الْآيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَمُجَاهِدٍ وَطَاوُس وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ قَالُوا: إنْ شِئْتَ قَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا وَإِنْ شِئْتَ مُتَتَابِعًا.
وَرَوَى شَرِيكٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: اقْضِ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا فَإِنْ فَرَّقْتَهُ أَجْزَأَكَ.
وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ قَالَ: لَا يُفَرَّقُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْبَابِ، وَأَنَّهُ إنْ فَرَّقَ أَجْزَأَهُ، كَمَا رَوَاهُ شَرِيكٌ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ: صُمْهُ كَمَا أَفْطَرْتَهُ.
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ قَضَاءُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعٌ.
وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسِ الْمَكِّيِّ قَالَ: كُنْت أَطُوفُ مَعَ مُجَاهِدٍ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ صِيَامِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ أَيُتَابِعُ؟ قُلْتُ: لَا فَضَرَبَ مُجَاهِدٌ فِي صَدْرِي وَقَالَ: إنَّهَا فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ {مُتَتَابِعَاتٍ}.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: يُتَابِعُ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ شَاءَ تَابَعَ وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: يَقْضِيهِ مُتَتَابِعًا أَحَبُّ إلَيْنَا، وَإِنْ فَرَّقَ أَجْزَأَهُ.
فَحَصَلَ مِنْ إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ جَوَازُ قَضَائِهِ مُتَفَرِّقًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى حَمَّادٌ عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ أُمِّ هَانِئٍ أَوْ ابْنِ بِنْتِ أُمِّ هَانِئٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاوَلَهَا فَضْلَ شَرَابِهِ فَشَرِبَتْ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَرُدَّ سُؤْرَكَ فَقَالَ: إنْ كَانَ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ فَصُومِي يَوْمًا مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَإِنْ شِئْتِ فَاقْضِيهِ، وَإِنْ شِئْتِ فَلَا تَقْضِيهِ» فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَضَاءِ يَوْمٍ مَكَانَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِاسْتِئْنَافِ الصَّوْمِ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ التَّتَابُعَ غَيْرُ وَاجِبٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ مِنْ التَّفْرِيقِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ لَأَرْشَدَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ وَبَيَّنَّهُ لَهَا.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ نَفْسَهُ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أَيَّامٍ مُتَجَاوِرَةٍ، وَلَيْسَ التَّتَابُعُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهِ، بِدَلَالَةِ أَنَّهُ لَوْ أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِقْبَالُ الصَّوْمِ وَجَازَ مَا صَامَ مِنْهُ غَيْرُ مُتَتَابِعٍ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مُتَتَابِعًا فَقَضَاؤُهُ أَحْرَى بِأَنْ لَا يَكُونَ مُتَتَابِعًا، وَلَوْ كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ مُتَتَابِعًا لَكَانَ إذَا أَفْطَرَ مِنْهُ يَوْمًا لَزِمَهُ التَّتَابُعُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ لَزِمَهُ اسْتِئْنَافَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ أَطَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ غَيْرَ مَعْقُودِ بِشَرْطِ التَّتَابُعِ، وَقَدْ شَرَطْتُمْ ذَاكَ فِيهِ وَزِدْتُمْ فِي نَصِّ الْكِتَابِ.
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ {مُتَتَابِعَاتٍ} وَرَوَى يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرنَا ابْنُ عَوْنٍ قَالَ: سَأَلْتُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَقَالَ: كَمَا فِي قِرَاءَتِنَا {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}.
وَرَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيّ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ أُبَيٌّ يَقْرَؤُهَا: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ مُسْتَقْصًى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا جَمِيعًا عَلَى الْفَوْرِ وَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقَضَاءُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْجِيلَ قَضَائِهِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَفِي وُجُوبِ ذَلِكَ إلْزَامُ التَّتَابُعِ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَوْنُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ فِي شَيْءٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَلْزَمُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ صَوْمُ أَوَّلِ يَوْمٍ فَصَامَهُ ثُمَّ مَرِضَ فَأَفْطَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ كَوْنِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ التَّتَابُعُ وَلَا اسْتِئْنَافُ الْيَوْمِ الَّذِي أَفْطَرَ فِيهِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَ التَّتَابُعِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِكَوْنِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَى الْفَوْرِ دُونَ الْمُهْلَةِ، وَأَنَّ التَّتَابُعَ لَهُ صِفَةٌ أُخْرَى غَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَم.

.بَاب فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ:

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَأَوْجَبَ الْعِدَّةَ فِي أَيَّامٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ فِي الْآيَةِ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَائِزٌ لَهُ أَنْ يَصُومَ أَيَّ وَقْتٍ يَشَاءُ وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمْ رِوَايَةٌ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهِ إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ.
وَاَلَّذِي عِنْدِيّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَدْخُلَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَهُوَ عِنْدِي عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ إذَا كَانَ غَيْرَ مُوَقَّتٍ فَهُوَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ قَضَاءُ رَمَضَانَ مُوَقَّتًا بِالسَّنَةِ لَمَا جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ عَنْ ثَانِي يَوْمِ الْفِطْرِ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ بِالتَّأْخِيرِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ بِآخِرِ وَقْتِ وُجُوبِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ، كَمَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَارَةِ بِفَرْضٍ مَجْهُولٍ عِنْدَ الْمَأْمُورِ ثُمَّ يَلْحَقُهُ التَّعْنِيفُ وَاللَّوْمُ بِتَرْكِهِ قَبْلَ الْبَيَانِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مَذْهَبَهُمْ جَوَازُ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ، ثَبَتَ أَنَّ تَأْخِيرَهُ مُوَقَّتٌ بِمُضِيِّ السَّنَةِ، فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَقْتِ الظُّهْرِ لَمَّا كَانَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ مَعْلُومَيْنِ جَازَ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِفِعْلِهَا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَجَازَ تَأْخِيرُهَا إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يُخَافُ فَوْتُهَا بِتَرْكِهَا؛ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا الَّذِي يَكُونُ مُفَرَّطًا بِتَأْخِيرِهَا مَعْلُومٌ.
وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ تَأْخِيرِهِ فِي السَّنَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ؛ وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: إنْ كَانَ لِيَكُونَ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَمَا اُسْتُطِيعَ أَنْ أَقْضِيَهُ حَتَّى يَأْتِيَ شَعْبَانُ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: لَا بَأْسَ بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ وَكَذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ: اقْضِ رَمَضَانَ مَتَى شِئْتَ.
فَهَؤُلَاءِ السَّلَفُ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ عَنْ أَوَّلِ أَوْقَاتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى حَضَرَ رَمَضَانُ آخَرُ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا: يَصُومُ الثَّانِي عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَقْضِي الْأَوَّلَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ أَطْعَمَ مَعَ الْقَضَاءِ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: كُلُّ يَوْمٍ مُدًّا، وَإِنْ لَمْ يُفَرِّطْ بِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ فَلَا إطْعَامَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: وَإِذَا فَرَّطَ فِي قَضَاءِ الْأَوَّلِ وَمَرِضَ فِي الْآخَرِ حَتَّى انْقَضَى ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مُدَّيْنِ: مُدًّا لِتَضْيِيعِهِ وَمُدًّا لِلصِّيَامِ، وَيُطْعِمُ عَنْ الْآخَرِ مُدًّا لِكُلِّ يَوْمٍ.
وَاتَّفَقَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ قَوْلِهِ قَبْلَ الْأَوْزَاعِيُّ أَنَّهُ إذَا مَرِضَ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ مَا قَبْلَ أَنْ يَصِحَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الضَّبِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى بَأْسًا بِقَضَاءِ رَمَضَانَ فِي ذِي الْحِجَّةِ».
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي تَمِيمٍ الْجَيَشَانِيِّ قَالَ: جَمَعَنَا الْمَجْلِسُ بَطَرَابُلْسَ وَمَعَنَا وُهَيْبٍ بْنُ مَعْقِلٍ الْغِفَارِيُّ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ صَاحِبَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَمْرٌو أَفْصِلُ رَمَضَانَ، وَقَالَ الْغِفَارِيُّ: لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ رَمَضَانَ، فَقَالَ عَمْرٌو: نُفَرِّقُ بَيْنَ قَضَاءِ رَمَضَانَ إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ الْبَغْلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ أَحْمَدَ الْعَسْقَلَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ أَفَأُفَرِّقُ بَيْنَهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَهُ مُتَفَرِّقًا أَكَانَ يُجْزِيكَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالتَّجَاوُزِ وَالْعَفْوِ» فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا تُنْبِئُ عَنْ جَوَازَ تَأْخِيرِ قَضَاءِ رَمَضَانَ عَنْ أَوَّلِ وَقْتِ إمْكَانِ قَضَائِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إيجَابُ الْفِدْيَةِ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ، مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ؛ رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَرِضْتُ رَمَضَانَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسْتَمَرَّ بِكَ مَرَضُكَ أَوْ صَحَحْتَ فِيمَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: بَلْ صَحَحْت فِيمَا بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَدَعْهُ حَتَّى يَكُونَ فَقَامَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالُوا: ارْجِعْ فَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فَرَجَعَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: صُمْ رَمَضَانَيْنِ وَأُطْعِمْ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا وَقَدْ رَوَى رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْن عُمَرَ فِي رَجُلٍ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، قَالَ: يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَيُطْعِمُ عَنْ الْأَوَّلِ كُلَّ يَوْمٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَهَذَا يُشْبِهُ مَذْهَبَهُ فِي الْحَامِلِ أَنَّهَا تُطْعِمُ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهَا مَعَ ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ؛ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَيُّوبَ وَحُمَيْدٍ عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ، أَنَّ رَجُلًا اُحْتُضِرَ فَقَالَ لِأَخِيهِ: إنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ دَيْنًا وَلِلنَّاسِ عَلَيَّ دَيْنٌ فَابْدَأْ بِدَيْنِ اللَّهِ فَاقْضِهِ ثُمَّ اقْضِ دَيْنَ النَّاس، إنَّ عَلَيَّ رَمَضَانَيْنِ لَمْ أَصُمْهُمَا، فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا شَأْنُ الْبُدْنِ وَشَأْنُ الصَّوْمِ؟ أَطْعِمْ عَنْ أَخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قَالَ أَيُّوبُ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَحَّ بَيْنَهُمَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ أَنَّهُ يَقُولُ: وَجَدْتُهُ يَعْنِي وُجُوبَ الْإِطْعَامِ عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ أَجِدْ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةَ مُخَالِفًا وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْقَضَاءِ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قَدْ دَلَّ عَلَى جَوَازِ التَّفْرِيقِ، وَعَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ وَعَلَى أَنْ لَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ مَعَ الْقَضَاءِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ إلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ، وَأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا أَوْجَبَتْ قَضَاءَ الْعِدَّةِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الْفِدْيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ قَضَاءَ الْعِدَّةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَاجِبٌ بِالْآيَةِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَتْهُ الْآيَةُ الْقَضَاءَ دُونَ الْفِدْيَةِ وَفِي بَعْضِهِ الْقَضَاءُ وَالْفِدْيَةُ مَعَ دُخُولِهِمَا فِيهَا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَعْضِ السُّرَّاقِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الْقَطْعُ وَزِيَادَةُ غُرْمٍ؟ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ لَا يُقْطَعُ إلَّا فِي عَشَرَةٍ وَبَعْضُهُمْ يُقْطَعُ فِيمَا دُونَهَا، كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُرَادَيْنِ بِقَوْلِهِ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَخْصُوصًا بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ دُونَ الْفِدْيَةِ وَبَعْضُهُمْ مُرَادٌ بِالْقَضَاءِ وَالْفِدْيَةِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْكَفَّارَاتِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ أَوْ الِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِيمَا وَصَفْنَا، فَلَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْفِدْيَةِ قِيَاسًا وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ وَأَجْزَأَ عَنْهُ، فَإِنَّمَا يَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِمَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَمَنْ مَاتَ مُفَرِّطًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ، أَمَّا اجْتِمَاعُ الْفِدْيَةِ وَالْقَضَاءِ فَمُمْتَنِعٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي بَابِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ، فَمَذْهَبُ ابْنِ عُمَرَ فِي هَذَا أَظْهَرُ فِي إيجَابِهِ دُونَ الْقَضَاءِ مِنْ مَذْهَبِ مَنْ جَمَعَهُمَا وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ.
عَلَى أَنَّ تَأْخِيرَهُ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْفِدْيَةَ عِنْدَ ذِكْرِ التَّفْرِيقِ، وَلَوْ كَانَ تَأْخِيرُهُ يُوجِبُ الْفِدْيَةَ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالثَّانِي: تَشْبِيهُهُ إيَّاهُ بِالدَّيْنِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْئًا غَيْرَ قَضَائِهِ، فَكَذَلِكَ مَا شَبَّهَهُ بِهِ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ تَأْخِيرِهِ إلَى الْعَامِ الْقَابِلِ وَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مُفَرِّطًا بِذَلِكَ، فَيَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، كَمَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَهُ لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ بِالتَّفْرِيطِ.
قِيلَ لَهُ: إنَّ التَّفْرِيطَ لَا يُلْزِمُهُ الْفِدْيَةُ إنَّمَا الَّذِي يُلْزِمُهُ الْفِدْيَةَ فَوَاتُ الْقَضَاءِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ بِالْمَوْتِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ أَكَلَ فِي رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا كَانَ مُفَرِّطًا، وَإِذَا قَضَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْفِدْيَةُ عِنْدَ الْجَمِيعِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُصُولَ التَّفْرِيطِ مِنْهُ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِإِيجَابِ الْفِدْيَةِ.
وَحَكَى عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ أَنَّ دَاوُد الْأَصْفَهَانِيَّ قَالَ: يَجِبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ لِعُذْرٍ أَنْ يَصُومَ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ، فَإِنْ تَرَكَ صِيَامَهُ فَقَدْ أَثِمَ وَفَرَّطَ فَخَرَجَ بِذَلِكَ عَنْ اتِّفَاقِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مَعًا وَعَنْ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَوْلُهُ: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} وَخَالَفَ السُّنَنَ الَّتِي رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ؛ قَالَ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى: فَقُلْتُ لَهُ: لِمَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَصُمْ الْيَوْمَ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ فَمَاتَ فَكُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ إنَّهُ آثِمٌ مُفَرِّطٌ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُوَسَّعًا لَهُ أَنْ يَصُومَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَزِمَهُ التَّفْرِيطُ إنْ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ.
قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ فَوَجَدَ رَقَبَةً تُبَاعُ بِثَمَنٍ مُوَافِقٍ، هَلْ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّاهَا وَيَشْتَرِيَ غَيْرَهَا؟ فَقَالَ: لَا فَقُلْتُ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقْ أَوَّلَ رَقَبَةٍ يَجِدُهَا، فَإِذَا وَجَدَ رَقَبَةً لَزِمَهُ الْفَرْضُ فِيهَا، وَإِذَا لَزِمَهُ فِي أَوَّلِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجِزْهُ غَيْرُهَا إذَا كَانَ وَاجِدًا لَهَا.
فَقُلْتُ: فَإِنَّ اشْتَرَى رَقَبَةً غَيْرَهَا وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْأُولَى؟ فَقَالَ: لَا يُجْزِيهِ ذَلِكَ.
قُلْتُ: فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ رَقَبَةٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ هَلْ يُجْزِيهِ أَنْ يَشْتَرِيَ غَيْرَهَا؟ قَالَ: لَا فَقُلْتُ: لِأَنَّ الْعِتْقَ صَارَ عَلَيْهِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقُلْتُ: فَمَا تَقُولُ إنْ مَاتَتْ هَلْ يَبْطُلُ عَنْهُ الْعِتْقُ كَمَا أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا فَمَاتَتْ يَبْطُلُ نَذْرُهُ؟ فَقَالَ: لَا بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرَهَا؛ لِأَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ فَقُلْتُ: وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ غَيْرَهَا.
فَقَالَ: عَمَّنْ تَحْكِي هَذَا الْإِجْمَاعَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: وَعَمَّنْ تَحْكِي أَنْتَ الْإِجْمَاعَ الْأَوَّلَ؟ فَقَالَ: الْإِجْمَاعُ لَا يُحْكَى.
فَقُلْتُ: وَالْإِجْمَاعُ الثَّانِي أَيْضًا لَا يُحْكَى وَانْقَطَعَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَجَمِيعُ مَا قَالَهُ دَاوُد مِنْ تَعْيِينِ فَرْضِ الْقَضَاءِ بِالْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ شَوَّالٍ وَأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَقَبَةٌ فَوَجَدَهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّاهَا إلَى غَيْرِهَا خِلَافَ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ، وَمَا ادَّعَاهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ مُفَرِّطًا إذَا مَاتَ، وَقَدْ أَخَّرَهُ عَنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَيْسَ كَمَا ادَّعَى، فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى آخِرِ السَّنَةِ لَا يَجْعَلُهُ مُفَرِّطًا بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ السَّنَةَ كُلَّهَا إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ ثَانٍ وَقْتَ الْقَضَاءِ مُوَسَّعٌ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ كَوَقْتِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي التَّأْخِيرِ مِنْ أَوَّلَهُ إلَى آخِرِهِ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا بِتَأْخِيرِهِ إنْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ، فَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ يَكُنْ مُفَرِّطًا لَمَا لَزِمَتْهُ الْفِدْيَةُ إذَا مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ السَّنَةِ وَلَمْ يَقْضِهِ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ لُزُومُ الْفِدْيَةِ عَلَمًا لِلتَّفْرِيطِ؛ لِأَنَّ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ يَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ مَعَ عَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَقَوْلُ دَاوُد الْإِجْمَاعُ لَا يُحْكَى خَطَأٌ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ يُحْكَى كَمَا تُحْكَى النُّصُوصُ، وَكَمَا يُحْكَى الِاخْتِلَافُ، فَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْمِعِينَ لَا يَحْتَاجُ إلَى حِكَايَةِ أَقَاوِيلِهِمْ بَعْدَ أَنْ يُنْشَرَ الْقَوْلُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُمْ حُضُورٌ يَسْمَعُونَ وَلَا يُخَالِفُونَ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ؛ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُحْكَى؛ لِأَنَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ مَا يُحْكَى فِيهِ أَقَاوِيلُ جَمَاعَتِهِمْ فَيَكُونُ مَا يَحْكِيهِ مِنْ إجْمَاعِهِمْ حِكَايَةً صَحِيحَةً، وَمِنْهُ مَا يُحْكَى أَقَاوِيلُ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ مُنْتَشِرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ مَعَ سَمَاعِ الْآخَرِينَ لَهَا وَتَرْكِ إظْهَارِ الْمُخَالَفَةِ، فَهَذَا أَيْضًا إجْمَاعٌ يُحْكَى؛ إذْ كَانَ تَرْكُ الْآخَرِينَ إظْهَارَ النَّكِيرِ وَالْمُخَالَفَةِ قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَافَقَةِ؛ فَهَذَانِ الضَّرْبَانِ مِنْ إجْمَاعِ الْخَاصَّةِ وَالْفُقَهَاءِ يُحْكَيَانِ جَمِيعًا.
وَإِجْمَاعٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا تَشْتَرِكُ فِيهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَوُجُوبِ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَنَحْوِهَا، فَهَذِهِ أُمُورٌ قَدْ عُلِمَ اتِّفَاقُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِنْ لَمْ يُحْكَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ اعْتِقَادُهُ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ؛ فَإِنْ عُنِيَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْإِجْمَاعِ فَقَدْ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مِثْلَهُ لَا يُحْكَى، وَقَدْ يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ هَذَا الضَّرْبَ أَيْضًا يُحْكَى لِعِلْمِنَا بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الصَّلَاةِ عَلَى اعْتِقَادِهِ وَالتَّدَيُّنِ بِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يُحْكَى عَنْهُمْ اعْتِقَادُهُمْ لِذَلِكَ وَالتَّدَيُّنُ بِهِ وَأَنَّهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَيْهِ، كَمَا إذَا ظَهَرَ لَنَا إسْلَامُ رَجُلٍ وَإِظْهَارُ اعْتِقَادِهِ الْإِيمَانَ أَنْ يُحْكَى عَنْهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ؛ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ.